السلام عليكم
منقول
"يا أيها الملأ أفتوني في رءياي إن كنتم للرءيا تعبرون . قالوا أضغاث أحلام و ما نحن بتأويل الأحلام بعالمين"
هناك بداهة فارق في المعنى بين الإثنين, ولكن هذا لا يعني أن التعبير مختص بالرؤيا والتأويل مختص بالأحلام, فالرؤيا تَأول والأحلام تُعبّر! فالله تعالى يقول في نفس السورة:
"وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف : 100]
أما بخصوص الفارق بين التعبير والتأويل, فراجع إلى الاختلاف في المعنى بين الإثنين,
فالتعبير كما قلنا هو المضي والانتقال من شيء إلى آخر, وهذا ما يحدث مع المعبرين ! فهم يحاولون الربط بين حال الحالم أو صاحب الرؤيا وبين العناصر الواردة في الحلم, ويحاولون استخراج الرموز المذكورة في الرؤيا وإسقاطها على أرض الواقع, وهذا لا يزيد عن كونه تعبيرا! وهذا مشابه لما نقوم به عندما نقدم لإنسان صورة مرسومة ونقول له: عبر عن هذه الصورة بكلماتك! فيبدأ في التعبير أي في نقل المرئي إلى منطوق. ومن الممكن أن نقول له: استخرج الإشارات والرموز الموجودة في هذه الصورة! فيركز قليلا حتى يجمع عناصر الصورة والصورة العامة لها,
. والمعبر لا يستطيع أن يجزم بصحة تعبيره وإنما هو اجتهاد واستنباط.أما التأويل فهو رد الأمر إلى الأصل الذي خرج منه , لذلك نجد أن التأويل "يأتي ويقع"! نعم, يأتي فالشيء يكون في حال وينتقل إلى أخرى فيكون هذا تأويله أي المرجع الذي يصير إليه فعلا وحالا, كما قال تعالى:"هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [الأعراف : 53]
بلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [يونس : 39]
فالتأويل مرجع الشيء ومصيره, لذلك قد يترتب على الفعل تأويل حسن أو سيىء: " وأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [الإسراء : 35]"
ونخلص من هذا كله إلى أن التأويل أقوى من التعبير, فالتأويل هو مصير الشيء ومرجعه, وهو لا يكون بالكلام أبدا وإنما بالوقوع, لذا نلاحظ أن القرآن لم يستعمل التأويل مع الكلام وإنما استعمله مع الفعل والوقوع "قال يا أبت هذا تأويل رؤياي" أي كل ما حدث له ولأخوته هو تأويل الرؤيا, أماالتعبير فما هو إلا توصيف للشيء عن طريق جمع عناصره وقد يصيب التعبير أو يخطأ.
فإذا نحن نظرنا في الآيات يتضح لنا الفرق في الاستعمال:
وقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ [يوسف : 43]
فنلاحظ هنا استعمال الصيغة الفعلية من "عبر" وهي تعبرون, وهي بالمعنى الذي ذكرناه بأعلى, فإذا نظرنا في رد الملأ وجدناه:
"قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ [يوسف : 44]"
إذا فلقد فهم الملأ سؤال الملك ولم يحاولوا أن يعبروا له الرؤيا, لأن الملك لا يطلب أو يريد منهم مجرد فهم لهذه الرؤيا أو تعبير وإنما يريد أن يعرف مدلولها وكيف ستتحقق على أرض الواقع, فإذا هم قالوا بتأويل ثم وقع آخر فسينالهم عقاب شديد, لذلك قالوا: وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين, أي لا نعرف إلى ما تصير الأحلام وكيف تتحقق.
وننظر في آيات أخر لنر كيف استعمل القرآن مصطلح التأويل:
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف : 36]
َقالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [يوسف : 37]
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ [يوسف : 45]"
قال السعدي في تفسيره: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا} وهو الذي رأى أنه يعصر خمرًا، فإنه يخرج من السجن {فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} أي: يسقي سيده الذي كان يخدمه خمرا، وذلك مستلزم لخروجه من السجن، {وَأَمَّا الآخَرُ} وهو: الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه. {فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ} فإنه عبر [عن] الخبز الذي تأكله الطير، بلحم رأسه وشحمه، وما فيه من المخ، وأنه لا يقبر ويستر عن الطيور، بل يصلب ويجعل في محل، تتمكن الطيور من أكله، ثم أخبرهما بأن هذا التأويل الذي تأوله لهما، أنه لا بد من وقوعه فقال: {قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} أي: تسألان عن تعبيره وتفسيره.
فنلاحظ في هذه الآيات أن القرآن يتكلم عن إنباء بتأويل, ولا يذكر أبدا "أوّلت الرؤيا" وإنما أنبأت بتأويل, لأنه من المستحيل أن يؤول أحد الرؤيا, لأن الرؤيا رؤيا انقضت, وهي تشير إلى شيء سيحدث في الواقع, فالإنسان الخبير يستطيع أن ينبأ بما سيحدث في الواقع مقابلا لهذه الرؤيا لا أنه سيحول الرؤيا نفسها إلى واقع!
إذا فلقد قام سيدنا يوسف بالإنباء –وليس الإخبار,لأن التأويل لم يكن قد وقع بعد وإنما سيحدث في المستقبل- بتأويل الرؤى
.والله اعلم
-------------
_________________