﷽
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل و سلم على محمد وعلى آل محمد.
كانت هناك دائمًا مسألة تشغل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يُنَبِّه المُصَلِّين إليها قبل أن يُكَبِّر تكبيرة الإحرام، ألا وهي تسوية الصفوف، وله في ذلك ألفاظ كثيرة؛ فكان يقول مثلًا -كما روى أبو هريرة رضي الله عنه: «.. وَأَقِيمُوا الصَّفَّ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ إِقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلَاةِ» صحيح البخاري (722). وفي رواية أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ» صحيح مسلم (433). ومن شدَّة أهمية الأمر جعل الله عز وجل له معجزة! وهي قدرته صلى الله عليه وسلم على رؤية الصفوف التي في ظهره دون أن يلتفت إليها! فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: «اسْتَوُوا اسْتَوُوا اسْتَوُوا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ خَلْفِي كَمَا أَرَاكُمْ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ» سنن النسائي (813) وصححه الألباني.
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتفي بالقول في هذه المسألة، بل كان يمرُّ بنفسه بين الصفوف يُسَوِّيها؛ فقد قال النعمان بن بشير رضي الله عنه: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسَوِّي صُفُوفَنَا حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ، حَتَّى رَأَى أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ، ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا فَقَامَ حَتَّى كَادَ يُكَبِّرُ، فَرَأَى رَجُلًا بَادِيًا صَدْرُهُ مِنَ الصَّفِّ، فَقَالَ: «عِبَادَ اللهِ لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ» صحيح مسلم (436). ومعنى كلام النعمان رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يهتمُّ جدًّا بتسوية الصفوف حَتَّى تَصِير كالسهام؛ لشدة استوائها واعتدالها. والسؤال المهم: كيف يتم تسوية الصفوف؟!
فصَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر، وشرح لنا الطريقة، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَقِيمُوا الصُّفُوفَ وَحَاذُوا بَيْنَ المَنَاكِبِ» سنن أبي داود (666) وصححه الألباني. والمنكب هو الكتف؛ فالمقصود هنا: أن ينظر كلُّ مُصَلٍّ إلى مَنْ يُجاوره يمينًا ويسارًا فيجعل كتفه موازيًا لأكتافهم. هذا أولًا.
ثانيًا: محازاة القدم بالقدم؛ قال النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه: «رَأَيْتُ الرَّجُلَ مِنَّا يُلْزِقُ كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ» صحيح البخاري (1/ 146). يقول ابن حجر: «المُرَادُ بِذَلِكَ المُبَالَغَة فِي تَعْدِيلِ الصَّفِّ وَسَدِّ خَلَلِهِ». وذكر كذلك أن المراد بالكعب في كلام النعمان رضي الله عنه هو «الْعَظْم النَّاتِئ فِي جَانِبَيِ الرِّجْلِ -وَهُوَ عِنْدَ مُلْتَقَى السَّاقِ وَالْقَدَمِ- وَهُوَ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَلْزَقَ بِاَلَّذِي بِجَنْبِهِ, خِلَافًا لِمَنْ ذَهَبَ أَنَّ المُرَادَ بِالْكَعْبِ مُؤَخَّر الْقَدَم» فتح الباري (2/211).
ثالثًا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «.. وَلِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ» سنن أبي داود (666) وصححه الألباني. وقد يكون المقصود أن يُطيع الرجل أخاه الواقف إلى جواره في التقدُّم أو التأخُّر حتى يستوي الصفُّ بسهولة، ودون جدل كثير، أو المقصود ما قاله أبو داود رحمه الله؛ حيث قال تعليقًا على هذا الحديث: «وَلِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ إِذَا جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الصَّفِّ فَذَهَبَ يَدْخُلُ فِيهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُلِينَ لَهُ كُلُّ رَجُلٍ مَنْكِبَيْهِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي الصَّفِّ». سنن أبي داود (1/178).
ومع أهمية هذه المساواة في الصفِّ فليحذر المصلي من المبالغة في هذا الأمر بعد تكبيرة الإحرام وأثناء الصلاة! حتى لا يشغله ذلك عن الخشوع في الصلاة، فمن المصلين من يظلُّ يُراقب أطراف أصابع قدمه وقدم زميله الذي يقف إلى جواره، ويجذب هذا إلى الأمام قليلًا، ويدفع آخر إلى الوراء قليلًا! وقد يُبالغ في فتح قدمه حتى يمنع وجود فرجة، وينشغل بهذه الأعمال فلا يدري آخر المطاف هل يُصَلِّي الإمام به الظهر أم العصر؟!! ورضي الله عن عبد الله بن مسعود حيث وصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «كانوا أبرَّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلَّها تكلُّفًا»! جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (2/947).