منقول للفائذة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من صفات المنافقين في سورة التوبة
عبد الله علي محمد العبدلي
تناولت سورة التوبة المنافقين المندسِّين بين صفوف المسلمين، ففضحتهم وكشفت أسرارهم ومخازيهم، حتى لم تبق فيهم صِفةً ذميمةً إلاَّ ذكرتها، ولا مرضاً إلاَّ ذكرته وبينت علاجه، قال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس رضي الله عنه عن سورة براءة فقال: "تلك الفاضحةُ، ما زال ينزل: ومنهم ومنهم حتى خفنا ألا تدع أحداً" [1].
وبين يديك أخي القارئ بعض صفات المنافقين التي ذكرها الله تعالى في سورة التوبة:
(1) بثُ الفرقة والشقاق بين المسلمين.
وذلك بالدس والوقيعة فيما بينهم، قال تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُم الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [سورة التوبة، الآية: 47].
قال القرطبي: "الخبال: الفساد والنميمة وإيقاع الاختلاف والأراجيف. والمعنى: أي ما زادوكم قوة ولكن طلبوا الخبال" [2].
قال الرازي: "والخبال: الشر والفساد من كل شيء، ومنه سمي العَتَه بالخَبَل، والمعنى ما زادكم إلا شراً. وقيل: إلا مكراً، وقيل: إلا غياً، وقال الضحاك: إلا غدراً.
وقيل الخبال: الاضطراب في الرأي. وذلك بتزيين أمرٍ لقومٍ وتقبيحهِ لقومٍ آخرين، ليختلفوا وتفترق كلمتهم" [3].
(2) الكذب والحلف عليه.
قال تعالى: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [سورة التوبة، الآية: 42].
أي: سيحلفون أن تخلفهم عن الخروج أن لهم أعذرا وأنهم لا يستطيعون ذلك. {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} بالقعود والكذب والإخبار بغير الواقع [4].
ويدفعهم الخوف والجبن إلى الحلف بالله أنهم في المؤمنين، قال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [سورة التوبة، الآيات: 56-57].
{قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} أي: يخافون الدوائر، وليس في قلوبهم شجاعة تحملهم على أن يبينوا أحوالهم. فيخافون إن أظهروا حالهم منكم، ويخافون أن تتبرأوا منهم، فيتخطفهم الأعداء من كل جانب.
وأما حال قوي القلب ثابت الجنان، فإنه يحمله ذلك على بيان حاله، حسنة كانت أو سيئة، ولكن المنافقين خلع عليهم خلعة الجبن، وحلوا بحلية الكذب.
ثم ذكر شدة جبنهم فقال: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} يلجأون إليه عندما تنزل بهم الشدائد، {أَوْ مَغَارَاتٍ} يدخلونها فيستقرون فيها {أَوْ مُدَّخَلا} أي: محلا يدخلونه فيتحصنون فيه {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي: يسرعون ويهرعون، فليس لهم ملكة، يقتدرون بها على الثبات [5].
ويدفعهم الحرص على إرضاء الناس إلى الحلف، قال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} [سورة التوبة، الآية: 62].
(3) كثرة الأعذار، وطلبُ الإذنِ في التخلف.
قال تعالى: {إنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [سورة التوبة، الآية: 45].
قال الزمخشري: "والذين استأذنوا في التخلف عن غزوة تبوك، كانوا من المنافقين وكان عددهم تسعةً وثلاثين" [6].
وقال تعالى أيضا مبينا كراهيتهم وتخوفهم من الجهاد: {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ} [سورة التوبة، الآية: 86].
قال الرازي: "واعلم أنه تعالى قد بين في الآيات المتقدمة أن المنافقين احتالوا في رخصة التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والقعود عن الغزو، وفي هذه الآية زاد دقيقهً أخرى، وهي أنه متى نزلت آيةٌ مشتملةٌ على الأمر بالإيمان وعلى الأمر بالجهاد مع الرسول، استأذن أولو الثروة والقدرة منهم في التخلف عن الغزو، وقالوا لرسول الله ذرنا نكن مع القاعدين: أي مع الضعفاء من الناس والساكنين في البلد.
ووصفهم بأولي الطول: لبيان أن الذم لهم ألزم لأجل كونهم قادرين على السفر والجهاد" [7].
وقد قدم بعضهم أعذارًا واهية في تخلفهم عن الغزوة، فقال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [سورة التوبة، الآية: 49]، أي: ائذن لي في القعود {وَلاَ تَفْتِنِّي} ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم، بأن لا تأذن لي، فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت [8].
وهذا العذر قاله الجَدُ بن قيس، حينما طلب منه الرسول صلى الله عليه وسلم الاستعداد للخروج فقال: "قد عرف قومي أني مغرمٌ بالنساء، وإني أخشى أن رأيت نساء بني الأصفر لا أصبر عنهن، فلا تفتني وأذن لي في القعود". فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «قد أذنت لك» [9].
(4) الحزن بنصر المسلمين والفرح بانكسارهم وشدتهم.
قال تعالى: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ} [سورة التوبة، الآية: 50].
والمعنى: إن تصبك في بعض الغزوات حسنة سواء كان ظفرا، أو كان غنيمة، أو كان انقيادا لبعض ملوك الأطراف، يسؤهم ذلك، وإن تصبك مصيبة من نكبة وشدة ومصيبة ومكروه يفرحوا به، ويقولوا قد أخذنا أمرنا الذي نحن مشهورون به، وهو الحذر والتيقظ والعمل بالحزم، {مِن قَبْلُ} أي قبل ما وقع وتولوا عن مقام التحدث بذلك، والاجتماع له إلى أهاليهم، وهم فرحون مسرورون [10].
(5) لمز النبي صلى الله عليه وسلم في توزيع الصدقات، واتهامه في عدالته.
قال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [سورة التوبة، الآية: 58].
أي: ومن هؤلاء المنافقين من يعيبك في قسمة الصدقات، وينتقد عليك فيها، وليس انتقادهم فيها وعيبهم لقصد صحيح، ولا لرأي رجيح، وإنما مقصودهم أن يعطوا منها. {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} وهذه حالة لا تنبغي للعبد أن يكون رضاه وغضبه، تابعا لهوى نفسه الدنيوي وغرضه الفاسد، بل الذي ينبغي أن يكون هواه تبعا لمرضاة ربه [11].
(6) أذية النبي صلى الله عليه وسلم واتهامه بقلة الحزمه وإخداعه بغيره.
قال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة التوبة، الآية: 61].
إنه سوء الأدب في حق الرسول، يبدو في صورة أخرى غير صورة اللمز في الصدقات. إنهم يجدون من النبي صلى الله عليه وسلم أدباً رفيعاً في الاستماع إلى الناس بإقبال وسماحة ويعاملهم بظاهرهم حسب أصول شريعته ويهش لهم ويفسح لهم من صدره. فيسمون هذا الأدب العظيم بغير اسمه، ويصفونه بغير حقيقته، ويقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم {هُوَ أُذُنٌ} أي: سماع لكل قول، يجوز عليه الكذب والخداع والبراعة، ولا يفطن إلى غش القول وزوره. من حلف له صدقه، ومن دس عليه قولاً قبله.
يقولون هذا بعضهم لبعض تطميناً لأنفسهم أن يكشف النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة أمرهم، أو يفطن إلى نفاقهم: أو يقولونه طعناً على النبي في تصديقه للمؤمنين الخلص الذين ينقلون له ما يطلعون عليه من شؤون المنافقين وأعمالهم وأقوالهم عن الرسول وعن المسلمين[12].
(7) الكسل في إتيان الصلاة، والإنفاق عن غير طيب نفس.
قال تعالى: {وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [سورة التوبة، الآية: 54]
فهم يأتونها مظهراً بلا حقيقة، ولا يقيمونها إقامة واستقامة. يأتونها كسالى لأن الباعث عليها لا ينبثق من أعماق الضمير، إنما يدفعون إليها دفعاً، فيحسون أنهم عليها مسخرون! وكذلك ينفقون ما ينفقون كارهين مكرهين.
وما كان الله ليقبل هذه الحركات الظاهرة التي لا تحدو إليها عقيدة، ولا يصاحبها شعور دافع. فالباعث هو عمدة العمل والنية هي مقياسه الصحيح.
ولقد كان هؤلاء المنفقون وهم كارهون ذوي مال وذوي أولاد، وذوي جاه في قومهم وشرف[13].
( استهزاؤهم بتعاليم الإسلام فيما بينهم، واعتذارهم عن ذلك بأنهم لم يكونوا جادين فيما ينطقون به من سوء، وتكذيب الله لهم فيما اعتذروا عنه.
قال تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ * وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} [سورة التوبة، الآيات: 64-66].
قال السدي: "قال بعض المنافقين: والله لوددت أني قدمت فجلدت مائة ولا ينزل فينا شيء يفضحنا، فأنزل الله هذه الآية". وقال مجاهد: "كانوا يقولون القول بينهم ثم يقولون: عسى الله أن لا يفشي علينا سرنا" [14]. والحقيقة أن المنافقين يعرفون حقيقة أمرهم، فهم غير مؤمنين بالله والرسول، وهم شاكون مرتابون في الوحي، قلقون مضطربون، والشك والقلق يدعوهم على الحذر والخوف لذا وصفهم الله تعالى بقوله: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ} أي: يخاف المنافقون ويتحرزون أن تنزل على المؤمنين سورة تكشف أحوالهم، وتفضح أسرارهم، وتبين نفاقهم كهذه التي سميت الكاشفة والفاضحة والمنبئة، التي تنبىء المؤمنين بما في قلوب المنافقين، وتخبرهم بحقيقة وضعهم، فيفتضح أمرهم، وتنكشف أسرارهم [15].
(9) يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويبخلون ويفسقون.
قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة التوبة، الآية: 67].
المنافقون والمنافقات من طينة واحدة، وطبيعة واحدة. المنافقون في كل زمان وفي كل مكان. تختلف أفعالهم وأقوالهم، ولكنها ترجع إلى طبع واحد، وتنبع من معين واحد. سوء الطوية ولؤم السريرة، والغمز والدس، والضعف عن المواجهة، والجبن عن المصارحة. تلك سماتهم الأصيلة. أما سلوكهم فهو الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، والبخل بالمال إلا أن يبذلوه رئاء الناس. وهم حين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف يستخفون بهما، ويفعلون ذلك دساً وهمساً، وغمزاً ولمزاً، لأنهم لا يجرؤون على الجهر إلا حين يأمنون. إنهم {نَسُواْ اللّهَ} فلا يحسبون إلا حساب الناس وحساب المصلحة، ولا يخشون إلا الأقوياء من الناس يذلون لهم ويدارونهم {فَنَسِيَهُمْ} الله فلا وزن لهم ولا اعتبار. وإنهم لكذلك في الدنيا بين الناس، وإنهم لكذلك في الآخرة عند الله. وما يحسب الناس حساباً إلا للرجال الأقوياء الصرحاء، الذين يجهرون بآرائهم، ويقفون خلف عقائدهم، ويواجهون الدنيا بأفكارهم، ويحاربون أو يسالمون في وضح النهار [16].
(10) الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والسعي إلى اغتياله، والحلف أنهم لم يقولوا شيئاً ولم يفعلوا شيئاً.
قال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [سورة التوبة، الآية: 74].
فقد أظهروا الكفر بالقول، وهموا بشر ما يغري به من الفعل، وهو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أظهره الله على ذلك، وأنبأه بأنهم سينكرونه إذا سألهم عنه، ويحلفون على إنكارهم ليصدقوا [17]
قال المفسرون: {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} يعني: المنافقين من قتل النبي ليلة العقبة في غزوة تبوك وكانوا اثني عشر رجلاً [18].
وقال الرازي: "المراد إطباقهم على الفتك بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم والله تعالى أخبر رسوله بذلك حتى احترز عنهم ولم يصلوا إلى مقصودهم" [19].
(11) احتقار المؤمنين.
قال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة التوبة، الآية: 79].
عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: "لما أمرنا بالصدقة كنا نتحامل، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رئاء، فنزلت: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [سورة التوبة، الآية: 79] [20].
(12) الفرح بالتخلف عن القتال والنصح بترك المواجهة.
قال تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [سورة التوبة، الآية: 81]، وسبب فرحهم عدم إيمانهم بأن في الجهاد خيرا، وكراهيتهم الجهاد مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. والفرح بالإقامة يدل على كراهة الذهاب، إلا أنه تعالى أعاده للتأكيد.
ولم يقتصر الأمر على فرحهم بأنفسهم، بل أغروا غيرهم بعدم الخروج، وقال بعضهم لبعض: "لا تخرجوا للجهاد لأن غزوة تبوك في شدة الحر، وقد طابت الثمار والظلال".
فرد الله عليهم بقوله: {قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} أي: إن نار جهنم التي أعدت للعصاة والتي تصيرون إليها بمخالفتكم أشدا حرا مما فررتم منه من الحر، فلو كانوا يعقلون ذلك ويعتبرون به، لما خالفوا وقعدوا، ولما فرحوا بل حزنوا [21].
(13) التستر ببعض الأعمال المشروعة للإضرار بالمؤمنين.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [سورة التوبة، الآية: 107].
أي: اتخذوا هذا المسجد لا من أجل العبادة والطاعة لله تعالى. وإنما اتخذوه من أجل الإضرار بالمؤمنين. وإيقاع الأذى بهم، وللازدياد من الكفر الذي يضمرونه ومن الغل الذي يخفونه، واتخذوه أيضا للتفريق بين جماعة المؤمنين الذين كانوا يصلون في مسجد واحد هو مسجد قباء، فأراد هؤلاء المنافقون من بناء مسجد الضرار إلى جوار مسجد قباء، أن يفرقوا وحدة المؤمنين، بأن يجعلوهم يصلون في أماكن متفرقة. حسدًا لهم على نعمة الإخاء والتآلف والاتحاد التي غرسها الإسلام في قلوب أتباعه [22].
(14) التهوين من سور القرآن الكريم والاستهزاء بها.
قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة التوبة، الآية: 124].
فقوله: {أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً} سؤال مريب، لا يقوله إلا الذي لم يستشعر وقع السورة المنزلة في قلبه. وإلا لتحدث عن آثارها في نفسه، بدل التساؤل عن غيره. وهو في الوقت ذاته يحمل رائحة التهوين من شأن السورة النازلة والتشكيك في أثرها في القلوب! [23]
(15) تضايقهم عند استماع القرآن الكريم.
قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون} [سورة التوبة، الآية: 127].
يقول الطبري: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ}، من القرآن، فيها عيبُ هؤلاء المنافقين الذين وصفَ جل ثناؤه صفتهم في هذه السورة، وهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم {نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} فتناظروا {هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ}، إن تكلمتم أو تناجيتم بمعايب القوم يخبرهم به، ثم قاموا فانصرفوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يستمعوا قراءة السورة التي فيها معايبهم [24].
فهذه بعض فضائح أصحاب القلوب المريضة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ذكرها الله في كتابه لأخذ الحذر والحيطة من أمثالهم.
نسأل الله سبحانه أن يطهر قلوبنا من النفاق، ويثبنا على دينه حتى الممات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.