﷽
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل و سلم على محمد وعلى آل محمد.
شهرُ شعبان مِن الأشهُر القليلة التي يهتمُّ بها المسلمون، حيث كان سلفُنا الصَّالح يهتمُّون بصوْمِه اقتداءً برسول الله صلَّى الله عليْه وسلَّم، وسمِّي شعبانُ بهذا الاسم لأنَّ العرب قديمًا كانوا يَتشعَّبون في الغارات بَعد أن يَخرج شهرُ رجب الحرام، وقيل لتشعُّبهم في طلب الماء.
وكان النبي صلَّى الله عليْه وسلَّم يَحتَفي بشعبان، ويصوم فيه أكثرَ مِن غيره مِن الشُّهور، حتَّى يُقال: لا يُفطر؛ كما في حديث عائشة عند البخاري ومسلم: «كان رسول اللَّه صلَّى الله عليْه وسلَّم يصومُ حتَّى نقول: لا يُفطر، ويُفطر حتى نقول: لا يصوم، فما رأيتُ رسولَ اللَّه صلَّى الله عليه وسلَّم استَكْمَل صيامَ شهرٍ إلَّا رمضان، وما رأيتُه أكثَرَ صيامًا منْه في شعبان». صحيح البخاري (1969)، صحيح مسلم (1156).
وعن عائشة أيضًا رضي الله عنها قالت: «لَم يكُن النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يصومُ شهرًا أكثرَ مِن شعبان، وكان يصومُ شعبان كلَّه، وكان يقول: «خُذوا مِن العمل ما تُطيقون؛ فإنَّ الله لا يمَلُّ حتَّى تملُّوا»، وأحبُّ الصَّلاة إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ما دُووِم عليه وإنْ قلَّتْ، وكان إذا صلَّى صلاةً داوَمَ عليها». صحيح البخاري (1970). صحيح مسلم (782).
قال بعض أهل العِلم: إمَّا أن يُحمَل قولُ عائشة في صيام شعبان كلِّه على المبالغة، والمراد أنَّه كان يصوم الأكثر، وإمَّا أن يجمع بين النُّصوص على أنَّ قولَها الثَّاني متأخِّرٌ عن قولِها الأوَّل، فأخبرَت عن أوَّل أمْرِه أنَّه كان يصوم أكثَر شعبان، وأخبرَت ثانيًا عن آخِر أمْره أنَّه كان يصومه كلَّه، وقيل: المراد أنَّه كان يصوم مِن أوَّله تارة، ومِن آخِره أخرى، ومن أوسطه طورًا فلا يُخلِّي شيئًا منه مِن صيام، ولا يَخُصُّ بعضَه بصيام دون بعض.
فتح الباري لابن حجر (4/ 214)، شرح الزرقاني على الموطأ (2/ 291)، نيل الأوطار (4/ 291).
ومع هذا فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تقدُّم رمضان بصوم يومٍ أو يومَين، فعن أبي هُرَيْرة رضِي الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لا يَتَقَدَّمنَّ أحدُكم رمضانَ بصومِ يومٍ أو يومَين، إلَّا أن يكونَ رجُلٌ كان يصُوم صوْمَه فليصُم ذلك اليوم». صحيح البخاري (1914).
قال العلماء: معنى الحديث: لا تَسْتَقْبلوا رمضان بصيامٍ على نيَّة الاحتِياط لرمضان. وقال الترمذي: العملُ على هذا عند أهل العِلم، كرهوا أنْ يَتعجَّل الرَّجُلُ بصيامٍ قبلَ دخول رمضان لمعنى رمضان، ومثل هذا حديث عمَّار بن ياسر في صيام يوم الشَّكِّ ولفظه: «مَن صام اليومَ الذي يُشَكُّ فيه فقد عصى أبا القاسم صلَّى الله عليه وسلَّم»، وكذلك الحديث الَّذي أخرجه أصحاب السُّنن وصحَّحه ابن حبَّان وغيرُه عن أبي هريرة مرفوعًا: «إذا انتَصَفَ شعبانُ فلا تصُوموا».
ولكن ما الحكمة في إكْثار النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن صوْم شعبان؟
قيل: كان يَنشَغل عن صوْم الأيام الثَّلاثة مِن كلِّ شهرٍ لسفر أو غيره، فتَجتَمع فيقضيها في شعبان، وقد رُوِي في ذلك حديث ضعيف. وقيل: كان يَصنَع ذلك لتعظيم رمضان، ورُوي في ذلك حديثٌ ضعيف أيضًا، وقيل: كان يُكْثِر مِن الصَّوم في شعبان لِمَا يَفُوتُه مِن التطوُّع في رمضان، فصيام رمضان فريضة، والنَّبيُّ صلَّى الله عليْه وسلَّم ما كان يُخلِّي شهرًا مِن الشُّهور مِن صيام تطوُّع، إلَّا رمضان فلا تطوُّع فيه، فكان يُكْثِر مِن صوم شعبان لِمَا يَفُوته مِن التطوُّع في رمضان. وأصحُّ ما قيل في ذلك أنَّه شهرٌ يَغْفُل عنْه النَّاس بين رجب ورمضان؛ كما في حديث النَّسائي وأبي داود وابن خُزيمة، عن أسامة بن زيد، قال: قلتُ: يا رسولَ الله، لَم أرَكَ تصُومُ مِن شهْرٍ مِن الشُّهور ما تصُوم مِن شعبان؟ قال: «ذلك شهرٌ يَغْفل النَّاسُ عنْه بين رجب ورمضان، وهو شهرٌ تُرفع فيه الأعمال إلى ربِّ العالمين، فأحبُّ أن يُرفع عملي وأنا صائم». صحيح الجامع (1022).